النجاح رحلة: فن تحديد الهدف
عرفنا في
الفصل السابق استراتيجية النجاح وأنها تحتوي على ثلاثة عناصر. فتعال بنا لنجلس مع
كل عنصر من العناصر الثلاثة جلسة هادئة وقصيرة لنتعرف على خصائصها والجوانب الهامة
فيها والتي ستساعدنا لنجعل من استراتيجياتنا استراتيجيات ناجحة بإذن الله. ولنبدأ
بعنصر تحديد الهدف.
الهدف للإنسان كالمنار
للسفينة، وكبرج المراقبة للطائرة. بدونه تتيه السفينة في المحيط وتتخبط الطائرة في
الفضاء. هذا العنصر هو أهم العناصر الثلاثة وعليه ينبني
ما بعده. وإذا تحقق بنجاح كان احتمال نجاح ما بعده، وإلا فالفشل سيكون مصير
الاستراتيجية كلها.
وهذا من الأمور البدهية فالانسان الناجح هو ذلك
الانسان الذي يسير ويتحرك ويتصرف ويتكلم بناء على أهداف مرسومة يعمل على تحقيقها،
أما الانسان الذي ليس له أهداف فإنه سيبقى يراوح مكانه.
أجرى أب اختبارا لأبنائه فوضع لهم هدفا ليصوبوا
نحوه. فوقف الأول في موقف التصويب، فسأله ماذا ترى؟ فقال : أرى الهدف وأرى الشجرة
التي وضَعَتَ عليها الهدف، وأرى حمارا إلى جوار الشجرة. فطلب منه التأخر وقدم
الثاني إلى موقف التصويب، وسأله نفس السؤال، فقال الابن : أرى الهدف، والشجرة،
والحمار، وأرى عصفورا على الشجرة. فطلب منه التأخر وقدم الثالث، وسأله نفس السؤال،
فقال الابن الثالث : أرى الهدف. فسأله وماذا ترى غير الهدف؟ فقال : لا أرى غير
الهدف. فكرر السؤال عدة مرات والابن يجيب بنفس الجواب. فقال الأب : أنت الذي ستصيب
الهدف.
وأهمية تحديد الهدف تتضح
أكثر إذا علمنا أن هذه العملية تؤثر على العقل اللاواعي للإنسان ويصبح بالتالي
يسير نحو الهدف تلقائيا. هل سرت ذات مرة في الطريق لقضاء حاجة ما، فوجدت نفسك قد
وصلت إلى المنزل أو مكان عملك دون أن تشعر. من الذي قادك إلى هناك؟ نعم، إنه
اللاواعي. إذا استطعت أن تغرس أهدافك بشكل عميق في عقلك
اللاواعي فإنه بالتالي سيقودك بشكل تلقائي نحو الهدف.
سنتعرف في الفقرات التالية
على خصائص الهدف الناجح وكيف تغرسه في اللاواعي بشكل
عميق بحيث ترعاه بشكل دائم ومتكرر وتسقيه وتغذيه حتى ينمو ويترعرع وكأنما تراه
يلوح لك من بعيد وتسمع صوت ندائه وهو ينادينك بصوت عذب جميل أن هلم إلي فأنا في
انتظارك.
خمسة شروط للحصول على أهداف تنبض بالحياة :
- التحديد والوضوح
لابد أن يكون الهدف محددا
حتى أسعى لتحقيقه، فإذا قلت أن هدفي رفع الانتاج مثلا. فهذا هدف غير محدد. فلا بد
أن يكون هناك معايير لقياس هذا الهدف من خلال الكمية أو النوعية أو النسبة المئوية
أو الزمن أو جميعها. فأجعل هدفي رفع الانتاج بنسبة 10% خلال 6 أشهر مع المحافظة
على مستوى الجودة. وبتفكيرك في الجوانب التي تحدد الهدف وتوضحه تكون قد غرست
البذرة في الطريق نحو جني الهدف.
- أن يكون إيجابيا وأن يستحق العمل من أجله
هذه الخاصية ستكون إطارا
للخاصية الأولى. فتختار من الأهداف ما يستحق أن تبذل وقتك وجهدك من أجله وتصوغه
صياغة إيجابية. فمثلا هدفي أن لا أكون سمينا. فصيغة النفي تعمل بشكل عكسي فترسخ
صورة السمنة في اللاواعي. فأنا إذا قلت : لا تفكر في
أسد أخضر اللون ينام على ظهره رافعا أرجله إلى الأعلى. فإنك بالتأكيد قد
فكرت في تلك الصورة مع أنني طلبت منك ألا تفكر. إذن أهدافك ينبغي ألا تشتمل على
صيغة النفي أو النهي أبدا.
- أن تكون مسئولية تحقيقه على نفسك
عندما تضع أهدافك ينبغي أن
تكون أهدافك أنت فعلا لا أهداف شخص آخر وبالتالي فمسئولية تحقيقها ستكون عليك أنت
بشكل كامل. لا يعني هذا أن لا نستعين بأحد ولكن عليك أن تتابع الأمر وتتحقق من سير
الأمور على نحو يحقق الهدف. فالهدف التالي مثلا عندما يضعه أب لنفسه : أن يحصل
إبني على الإمتياز في الدراسة، لا يحقق هذا الشرط. فالحصول على إمتياز في الدراسة
ينبغي أن يكون من أهداف الإبن، أما الأب فيمكن أن يكون هدفه أن أراجع مع إبني
دروسة بمعدل ساعة/ساعتين كل أسبوع، مثلا. تحمل المسئولية سيكون أول غذاء تغذي به
هدفك لأنك بذلك تزرع الثقة والمسئولية في نفسك وتبدا التَحَفُّز للعمل.
- التفكير في الدلائل التي تبين الاقتراب من تحقيقه
الهدف شئ رائع أن يعمل
للوصول إليه الانسان. ولكن كيف أعرف إن كنت أقترب من هدفي أو أبتعد عنه أو كنت
أراوح في مكاني. نحتاج عند وضع أهدافنا إلى تحديد العناصر والعوامل التي تدلنا على
المسافة المتبقية للوصول إلى الهدف. فالسائق الذي يقود سيارته نحو هدف يبعد 10
كيلومترات مثلا، يراقب عداد الكيلو ليحدد كم بقي له حتى يصل هدفه. فلديه أداة تخبره
دائما باقترابه من هدفه. وكل منا يحتاج مثل تلك الأداة التي تنير طريقنا وتساعدنا
على التعديل في مسارنا وتشعرنا بالثقة بأننا نسير نحو الهدف.
وجود مثل هذه الأداة سيكون
له دور إضافي في تحفيزنا على الاستمرار في السير نحو الهدف. حيث نشعر بتقدمنا في
الطريق بعكس من يسير دون أية دلائل على تقدمه فإنه قد ييأس نتيجة عدم وجود ما
يشعره بحركته وتقدمه.
فلو وضع بائع لنفسه هدفا أن
يرفع مبيعاته بنسبة 10% خلال 3 أشهر مثلا. فأحد الدلائل على اقترابه من هدفه أن
ترتفع مبيعاته بعد شهر بمقدار 2%، فيحفزه ذلك على الاستمرار. دليل آخر على ذلك أن
يتلقى خطاب شكر من رئيسه على جهوده لرفع مبيعاته. دليل آخر أن يتلقى المزيد من
طلبات الشراء من عملائه. ودليل آخر أن يتعرف على عملاء جدد مما يزيد من فرصه لرفع
المبيعات ... وهكذا. مجرد التفكير في مثل هذه الدلائل
قبل وقوعها فعليا وتخيلها وكأنها تحدث مع تأمل صورها وسماع أصواتها واستشعار مشاعر
الفرح بالنجاح يعتبر كالماء والسماد لللأهداف يغذيها وينميها ويزيدنا قناعة بها
وبإمكانية تحققها مما يشكل حافزا لنا على بذل المزيد من أجل الوصول إليها.
- التأمل في الآثار السلبية والإيجابية
التأمل في الآثار السلبية
والإيجابية للهدف جانب مهم للغاية في حياة الهدف. فلو وجد الانسان أن الهدف الذي
يسعى إليه سيكون له آثار سلبية على حياته تفوق الفوائد التي سيجنيها منه فعليه أن
يختار بين أمرين. إما أن يجد حلولا لتلافي الآثار السلبية قبل الشروع في العمل من
أجل الهدف أو إلغاء الهدف لأنه غير مجد ولا يستحق العمل من أجله. وكمثال على
الآثار السلبية : الانسان الذي يرغب في إكمال دراسته العليا، إذا وجد أن تحقيق هذا
الهدف سيعيقه عن عمله الذي هو مصدر رزقه، وسيعيقه عن تربية أبنائه تربية سليمة
والوفاء بحقوق الزوجية نحو زوجه، ولم يجد أي وسيلة لتخفيف هذه الآثار، فإن العمل
من أجل هذا الهدف يمكن أن يدمر حياته فعليه إلغاءه أو على الأقل تأجيله.
بعد التحقق من الاحتياطات
اللازمة للآثار السلبية ننتقل إلى دراسة الآثار الإيجابية. ونقصد بالآثار
الإيجابية الجوانب التي ستتحسن في حياتك كنتيجة حتمية لتحقق الهدف. والتعرف على
هذه الجوانب بشئ من الاستقصاء يؤدي إلى زيادة الحافز من أجل تحقيق الهدف بل ويجعل
العمل من أجله ممتعا كذلك. فالطالب الذي وضع له هدفا أن يحصل على شهادة
البكالوريوس بتقدير ممتاز في مجال تخصصه، سيكون من الآثار الإيجابية قدرته على
الحصول على وظيفة أو إكمال دراسته العليا بحسب رغبته. ومن آثار تحقق ذلك الهدف
أيضا حصوله على المكافأة التي وعده بها أبوه. ومنها أن يحضر حفل التخرج في الجامعة
ويتسلم شهادته من مدير الجامعة في حفل مهيب ويعيش تلك اللحظات بكل حواسه، فيتخيل
صورة ذلك الحفل كفلم متحرك يحدث الآن ويستمع إلى الكلمات التي تلقى في الحفل ويسمع
التهاني وهي تقدم له من أهله وأصدقائه، ويشعر بمشاعر الفرح والفخر والسرور والراحة
وكل ما يتمنى أن يشعر به في ذلك اليوم. كل هذا سيقوم به عند وضعه للهدف ، أول
السنة على سبيل المثال، ولكن معايشته لهدفه بهذه الطريقة سيلهب حماسه للعمل على
تحقيق ذلك الهدف. وسيصبح تذكر هذه الصور والأصوات كالوقود له ينشطه كلما فَتَرْ.
وكل ما سيحتاجه هو أن يتذكر صورته وهو يعيش حفل التخرج ويعيش التجربة لثوان مما
يعطيه جرعة هائلة من الحماس. وسيكون هذا الخيال أفضل
غذاء يغذي به الإنسان نبتة هدفه الصغيرة لتنمو وتترعرع وتنبض بالحياة ويأتي أوان
حصادها بإذن الله.
تناولنا في هذا الفصل
العنصرالأول من عناصر استراتيجية النجاح وهي تحديد الهدف. وسنستكمل باقي العناصر
في الفصول التالية. ولكن قبل الاستعجال بمواصلة القراءة تدرّب الآن على مهارة
تحديد الأهداف، حتى تجعل من أهدافك كائنات حية تنمو
وتترعرع وتزهر وتثمر وترفع يدها ملوحة لك وتناديك بصوتها أن هلم إلىَّ فأنا
مستقبلك الزاهر.